بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ..
* اعلم أن التائبين فى التوبة على ( أربع طبقات ) :
( الطبقة الاولى ) : أن يتوب العاصي ويستقيم على التوبة إلى آخر عمره :
فيتدارك ما فرط من أمره ولا يحدِّث نفسه بالعود إلى ذنوبه إلا الزلات التى لا ينفك البشر عنها فى العادات مهما لم يكن فى رتبة النبوة ، فهذا هو الاستقامة على التوبة ، وصاحبه هو السابق بالخيرات المستبدل بالسيئات حسنات واسم هذه التوبة " التوبة النصوح " ، واسم هذه النفس الساكنة " النفس المطمئنة " التى ترجع إلى ربها راضية مرضية ، وهؤلاء هم الذين إليهم الإشارة بقوله : (( سبق المفردون المستهترون بذكر الله تعالى وضع الذكر عنهم اوزارهم فوردوا القيامة خفافا ))أخرجه الترمذي ، فإن فيه إشارة إلى أنهم كانوا تحت أوزار وضعها الذكر عنهم . وأهل هذه الطبقة على رتب من حيث النزوع إلى الشهوات . فمن تائب سكنت شهواته تحت قهر المعرفة ففتر نزاعها ، ولم يشغله عن السلوك صرعها ، وإلى من لا ينفك عن منازعة النفس ولكنه مليء بمجاهدتها وردها ، ثم تتفاوت درجات النزاع أيضا بالكثرة والقلة وباختلاف المدة وباختلاف الأنواع ، وكذلك يختلفون من حيث طول العمر : فمن مختطف يموت قريبا من توبته يغبط على ذلك لسلامته وموته قبل الفترة ، ومن ممهل طال جهاده وصبره وتمادت استقامته وكثرت حسناته ، وحال هذا أعلى وأفضل إذ كل سيئة فإنما تمحوها حسنة حتى قال بعض العلماء : إنما يكفر الذنب الذى ارتكبه العاصى أن يتمكن منه عشر مرات مع صدق الشهوة ثم يصبر عنه ويكسر شهوته خوفا من الله تعالى.
( الطبقة الثانية ) : تائب سلك طريق الاستقامة فى أمهات الطاعات ، وترك كبائر الفواحش كلها ، إلا انه :
ليس ينفك عن ذنوب تعترية لا عن عمد وتجريد قصد ، ولكن يبتلى بها فى مجارى أحواله من غير أن يقدم عزما على الإقدام عليها ، ولكنه كلما أقدم عليها لام نفسه وندم وتأسف وجدد عزمه على أن يتشمر للاحتراز من أسبابها التى تعرضه لها ، وهذه النفس جديرة بأن تكون هى" النفس اللوامة "، إذ تلوم صاحبها على ما تستهدف له من الأحوال الذميمة لا عن تصميم عزم وتخمين رأي وقصد ، وهذه أيضا رتبة عالية وإن كانت نازلة عن الطبقة الأولى ، وهى أغلب أحوال التائبين ، لأن الشر معجون بطينة الآدمى قلما ينفك عنه ، وإنما غاية سعيه أن يغلب خيره شره حتى يثقل ميزانه فترجح كفة الحسنات ، فأما أن تخلو بالكلية كفة السيئات فذلك فى غاية البعد ، وهؤلاء لهم حسن الوعد من الله تعالى إذ قال تعالى : ﴿الذين يجتنبون كبائرَ الإثم والفواحشَ إلا اللمم ﴾ (النجم : 32) إن ربك واسع المغفرة فكل إلمام يقع بصغيرة لا عن توطين نفسه عليه فهو جدير بأن يكون من اللمم المعفو عنه ، قال تعالى : ﴿ والذين إذا فعلوا فاحشة ًأو ظلموا أنفسَهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ﴾ (آل عمران : 135) فأثنى عليهم مع ظلمهم لأنفسهم لتندمهم ولومهم أنفسهم عليه ، وفى الخبر : (( لا بدّ للمؤمن من ذنب يأتيه الفينة بعد الفينة )) أخرجه الطبراني والبيهقي ، أى الحين بعد الحين ، فكل ذلك أدلة قاطعة على أن هذا القدر لا ينقض التوبة ، ولا يلحق صاحبها بدرجة المصرّين ، قال النبي : (( كل بنى آدم خطاءون وخير الخطائين التوابون المستغفرون )) أخرجه الترمذي . وقال تعالى : ﴿ أولئك يُؤتـَوْنَ أجرَهم مرتين بما صبَروا ويَدرءون بالحسنة السيئة َ﴾ (القصص : 54) فما وصفهم بعدم السيئة أصلا .
( الطبقة الثالثة ) : أن يتوب ويستمر على الاستقامة مدة ، ثم تغلبه الشهوات فى بعض الذنوب : فيقدم عليها عن صدق وقصد شهوة لعجزه عن قهر الشهوة ، إلا أنه مع ذلك مواظب على الطاعات وتارك جملة من الذنوب مع القدرة والشهوة ، وإنما قهرته هذه الشهوة الواحدة أو الشهوتان وهو يود لو أقدره الله تعالى على قمعها وكفاه شرها ، هذا أمنيته فى حال قضاء الشهوة عند الفراغ يتندم ويقول : ليتنى لم أفعله وسأتوب عنه وأجاهد نفسي فى قهرها ، لكنه تسول نفسه ويسوف توبته مرة بعد أخرى ويوما بعد يوم . فهذه النفس هى التى تسمى " النفس المسولة " وصاحبها من الذين قال الله تعالى فيهم : ﴿ وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخرَ سيئا ﴾ (التوبة : 102) فأمره من حيث مواظبته على الطاعات وكراهته لما تعاطاه مرجو فعسى الله أن يتوب عليه ، وعاقبته مخطرة من حيث تسويفه وتأخيره ، فربما يختطف قبل التوبة ويقع أمره فى المشيئة فإن تداركه الله بفضله وجبر كسره وامتن عليه بالتوبة التحق بالسابقين ، وإن غلبته شقوته وقهرته شهوته فيخشى أن يحق عليه فى الخاتمة ما سبق عليه من القول فى الأزل.
( الطبقة الرابعة ) : أن يتوب ويجري مدة على الاستقامة ثم يعود إلى مقارفة الذنب أو الذنوب من غير أن يحدث نفسه بالتوبة ومن غير أن يتأسف على فعله :
بل ينهمك انهماك الغافل فى اتباع شهواته فهذا من جملة المصرّين ، وهذه النفس هى " النفس الأمارة بالسوء " الفرّارة من الخير ، ويخاف على هذا سوء الخاتمة وأمره فى مشيئة الله ، فإن ختم له بالسوء شقي شقاوة لا آخر لها . وإن ختم له بالحسنى حتى مات على التوحيد فينتظر له الخلاص من النار ولو بعد حين ، ولا يستحيل أن يشمله عموم العفو بسبب خفي لا تطلع عليه ،وصاحب هذا جدير بأن يكون داخلا تحت قوله تعالى : ﴿ ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رءوسِهم عند ربِّهم ربَّنا أبصَرْنا وسمعنا فارجعْنا نعمل صالحا ﴾ (السجدة : 12)أي أبصرنا أنك صدقت إذ قلت : ﴿ وأنْ ليس للإنسانِ إلا ما سعى ﴾ (النجم : 39) فارجعنا نسعى ، وعند ذلك لا يمكَّن من الانقلاب ، ويحق عليه العذاب ..
** فطلب المغفرة بالطاعات كطلب العلم بالجهد والتكرار وطلب المال بالتجارة وركوب البحار، وطلبها بمجرد الرجاء مع خراب الأعمال كطلب الكنوز فى المواضع الخربة وطلب العلوم من تعليم الملائكة !!
فنعوذ بالله من العمى والضلال فما هذا إلا انتكاس على أم الرأس وانغماس فى ظلمات الجهل ..ونعوذ بالله من دواعى الجهل والشك والارتياب السائق بالضرورة إلى سوء المنقلب والمآب..
*************************
منقول باختصار من كتاب التوبة للإمام أبي حامد الغزالي رحمه الله
والحمد لله رب العالمين
* اعلم أن التائبين فى التوبة على ( أربع طبقات ) :
( الطبقة الاولى ) : أن يتوب العاصي ويستقيم على التوبة إلى آخر عمره :
فيتدارك ما فرط من أمره ولا يحدِّث نفسه بالعود إلى ذنوبه إلا الزلات التى لا ينفك البشر عنها فى العادات مهما لم يكن فى رتبة النبوة ، فهذا هو الاستقامة على التوبة ، وصاحبه هو السابق بالخيرات المستبدل بالسيئات حسنات واسم هذه التوبة " التوبة النصوح " ، واسم هذه النفس الساكنة " النفس المطمئنة " التى ترجع إلى ربها راضية مرضية ، وهؤلاء هم الذين إليهم الإشارة بقوله : (( سبق المفردون المستهترون بذكر الله تعالى وضع الذكر عنهم اوزارهم فوردوا القيامة خفافا ))أخرجه الترمذي ، فإن فيه إشارة إلى أنهم كانوا تحت أوزار وضعها الذكر عنهم . وأهل هذه الطبقة على رتب من حيث النزوع إلى الشهوات . فمن تائب سكنت شهواته تحت قهر المعرفة ففتر نزاعها ، ولم يشغله عن السلوك صرعها ، وإلى من لا ينفك عن منازعة النفس ولكنه مليء بمجاهدتها وردها ، ثم تتفاوت درجات النزاع أيضا بالكثرة والقلة وباختلاف المدة وباختلاف الأنواع ، وكذلك يختلفون من حيث طول العمر : فمن مختطف يموت قريبا من توبته يغبط على ذلك لسلامته وموته قبل الفترة ، ومن ممهل طال جهاده وصبره وتمادت استقامته وكثرت حسناته ، وحال هذا أعلى وأفضل إذ كل سيئة فإنما تمحوها حسنة حتى قال بعض العلماء : إنما يكفر الذنب الذى ارتكبه العاصى أن يتمكن منه عشر مرات مع صدق الشهوة ثم يصبر عنه ويكسر شهوته خوفا من الله تعالى.
( الطبقة الثانية ) : تائب سلك طريق الاستقامة فى أمهات الطاعات ، وترك كبائر الفواحش كلها ، إلا انه :
ليس ينفك عن ذنوب تعترية لا عن عمد وتجريد قصد ، ولكن يبتلى بها فى مجارى أحواله من غير أن يقدم عزما على الإقدام عليها ، ولكنه كلما أقدم عليها لام نفسه وندم وتأسف وجدد عزمه على أن يتشمر للاحتراز من أسبابها التى تعرضه لها ، وهذه النفس جديرة بأن تكون هى" النفس اللوامة "، إذ تلوم صاحبها على ما تستهدف له من الأحوال الذميمة لا عن تصميم عزم وتخمين رأي وقصد ، وهذه أيضا رتبة عالية وإن كانت نازلة عن الطبقة الأولى ، وهى أغلب أحوال التائبين ، لأن الشر معجون بطينة الآدمى قلما ينفك عنه ، وإنما غاية سعيه أن يغلب خيره شره حتى يثقل ميزانه فترجح كفة الحسنات ، فأما أن تخلو بالكلية كفة السيئات فذلك فى غاية البعد ، وهؤلاء لهم حسن الوعد من الله تعالى إذ قال تعالى : ﴿الذين يجتنبون كبائرَ الإثم والفواحشَ إلا اللمم ﴾ (النجم : 32) إن ربك واسع المغفرة فكل إلمام يقع بصغيرة لا عن توطين نفسه عليه فهو جدير بأن يكون من اللمم المعفو عنه ، قال تعالى : ﴿ والذين إذا فعلوا فاحشة ًأو ظلموا أنفسَهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ﴾ (آل عمران : 135) فأثنى عليهم مع ظلمهم لأنفسهم لتندمهم ولومهم أنفسهم عليه ، وفى الخبر : (( لا بدّ للمؤمن من ذنب يأتيه الفينة بعد الفينة )) أخرجه الطبراني والبيهقي ، أى الحين بعد الحين ، فكل ذلك أدلة قاطعة على أن هذا القدر لا ينقض التوبة ، ولا يلحق صاحبها بدرجة المصرّين ، قال النبي : (( كل بنى آدم خطاءون وخير الخطائين التوابون المستغفرون )) أخرجه الترمذي . وقال تعالى : ﴿ أولئك يُؤتـَوْنَ أجرَهم مرتين بما صبَروا ويَدرءون بالحسنة السيئة َ﴾ (القصص : 54) فما وصفهم بعدم السيئة أصلا .
( الطبقة الثالثة ) : أن يتوب ويستمر على الاستقامة مدة ، ثم تغلبه الشهوات فى بعض الذنوب : فيقدم عليها عن صدق وقصد شهوة لعجزه عن قهر الشهوة ، إلا أنه مع ذلك مواظب على الطاعات وتارك جملة من الذنوب مع القدرة والشهوة ، وإنما قهرته هذه الشهوة الواحدة أو الشهوتان وهو يود لو أقدره الله تعالى على قمعها وكفاه شرها ، هذا أمنيته فى حال قضاء الشهوة عند الفراغ يتندم ويقول : ليتنى لم أفعله وسأتوب عنه وأجاهد نفسي فى قهرها ، لكنه تسول نفسه ويسوف توبته مرة بعد أخرى ويوما بعد يوم . فهذه النفس هى التى تسمى " النفس المسولة " وصاحبها من الذين قال الله تعالى فيهم : ﴿ وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخرَ سيئا ﴾ (التوبة : 102) فأمره من حيث مواظبته على الطاعات وكراهته لما تعاطاه مرجو فعسى الله أن يتوب عليه ، وعاقبته مخطرة من حيث تسويفه وتأخيره ، فربما يختطف قبل التوبة ويقع أمره فى المشيئة فإن تداركه الله بفضله وجبر كسره وامتن عليه بالتوبة التحق بالسابقين ، وإن غلبته شقوته وقهرته شهوته فيخشى أن يحق عليه فى الخاتمة ما سبق عليه من القول فى الأزل.
( الطبقة الرابعة ) : أن يتوب ويجري مدة على الاستقامة ثم يعود إلى مقارفة الذنب أو الذنوب من غير أن يحدث نفسه بالتوبة ومن غير أن يتأسف على فعله :
بل ينهمك انهماك الغافل فى اتباع شهواته فهذا من جملة المصرّين ، وهذه النفس هى " النفس الأمارة بالسوء " الفرّارة من الخير ، ويخاف على هذا سوء الخاتمة وأمره فى مشيئة الله ، فإن ختم له بالسوء شقي شقاوة لا آخر لها . وإن ختم له بالحسنى حتى مات على التوحيد فينتظر له الخلاص من النار ولو بعد حين ، ولا يستحيل أن يشمله عموم العفو بسبب خفي لا تطلع عليه ،وصاحب هذا جدير بأن يكون داخلا تحت قوله تعالى : ﴿ ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رءوسِهم عند ربِّهم ربَّنا أبصَرْنا وسمعنا فارجعْنا نعمل صالحا ﴾ (السجدة : 12)أي أبصرنا أنك صدقت إذ قلت : ﴿ وأنْ ليس للإنسانِ إلا ما سعى ﴾ (النجم : 39) فارجعنا نسعى ، وعند ذلك لا يمكَّن من الانقلاب ، ويحق عليه العذاب ..
** فطلب المغفرة بالطاعات كطلب العلم بالجهد والتكرار وطلب المال بالتجارة وركوب البحار، وطلبها بمجرد الرجاء مع خراب الأعمال كطلب الكنوز فى المواضع الخربة وطلب العلوم من تعليم الملائكة !!
فنعوذ بالله من العمى والضلال فما هذا إلا انتكاس على أم الرأس وانغماس فى ظلمات الجهل ..ونعوذ بالله من دواعى الجهل والشك والارتياب السائق بالضرورة إلى سوء المنقلب والمآب..
*************************
منقول باختصار من كتاب التوبة للإمام أبي حامد الغزالي رحمه الله
والحمد لله رب العالمين