الإعجاز التشريعي في الميراث
مقدمة:
المال من أساسيات الحياة, بل هو قوام الحياة, قال تعالى:
﴿وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ
قِيَاماً﴾[النساء: 5], وهو وسيلة لا غاية، فالتعامل بين الناس إنما يكون به، من بيع
وشراء وغيره, أما إذا استعمل في غير الوجه الصحيح فإنه يكون شرّاً ووبالاً على
الناس وخاصة إذا كان غاية .
ومع ذلك فإن المال نعمة من نعم الله، ولذلك وجب على
الإنسان أن يسعى في تحصيله، ووردت نصوص في الحث علىتحصيله منها قوله تعالى:
﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ
الدُّنْيَا﴾[القصص: 77], ومن الحديث ورد الكثير, ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام:
«ما كسب الرجل كسباً أطيب من عمل يده»(1), وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يستعيذ بالله من الفقر, فمن دعائه: «اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر، اللهم إني
أعوذ بك من عذاب القبر، لا إله إلا أنت»(2), وإن الدنيا كلها بجميع ما فيها من مال
ومتاع ليست شيئاً بجانب ما في الآخرة من رضوان الله ونعيمه, وجاء التمثيل في القرآن
والسنة الذي يحطّ من شأن الدنيا, والذي يجعل المرء لا يحرص حين يجيء أجله على أن
يترك كل ما يملكه لأبنائه وحدهم، بل يتركه كما قسمه الله للأسرة كلها، ولم يفصّل
القرآن حكماً من الأحكام الشرعية كما فصّل الميراث، كما نجد القرآن من ناحية ثانية
يغرس في نفوسنا حقيقة أخرى، وهي أن هذا المال ليس ملكاً لنا حقّاً، بل هو مال الله
جعله ودائع بين أيدينا إلى آجال محدودة حتى نجعل منه حقّاً للسائل والمحروم, قال
تعالى: ﴿وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ﴾[النور: 33], وقال تعالى:
﴿آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ
فِيهِ﴾ [الحديد : 7], وإذا كان المال الذي بين أيدينا لله سبحانه وتعالى وأننا
مستخلفون فيه، فإنه لا يجوز لنا أن نبذّره، وأن نضعه في غير مواضعه، ولذا فقد حجر
على المبذّرين والمسرفين، ومنعوا من تصرفاتهم قال تعالى: ﴿وَلاَ تُؤْتُواْ
السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً﴾[النساء:
5].
وإذا مات الإنسان وترك مالاً فإنه يجب أن يؤول إلى أعز الناس إليه وهم
فروعه وأصوله، وحواشيه، وأقرباؤه. ولذلك فإن نظام الميراث في الشريعة الإسلامية
يفتت الثروة العامة ولا يجعلها مكدسة بين أيدي الناس دون الآخرين.
وقد اشتمل
علم المواريث في الإسلام على حِكم كثيرة, وفوائد عظيمة, مما جعل التشريع الإسلامي
رائداً في هذا المجال, ولم يسبقه أي تشريع أو قانون في هذه الدقة والتقدير الذي
يبهر العقول المستنيرة, ويجعل النفوس تتقبل هذه القسمة الإسلامية في الميراث براحة
نفس وطيب خاطر.
وفي هذا البحث سنتكلم عن بعض وجوه الإعجاز التشريعي في
المواريث, وقبل ذلك سنعرض الآيات التي تكلمت عن الميراث وقسمته, وكذلك الأحاديث
النبوية التي أخبرت عن الميراث ووضحت صوراً من القسمة في بعض الحالات, وبعد ذلك
سنذكر شيئاً من الحِكم البالغة في قسمة الشريعة الإسلامية لهذا
الميراث.
الآيات الواردة في
المواريث:
جاءت آيات في كتاب الله تعالى تتحدث عن المواريث وكيفية
قسمتها بين ورثة الميت, وهذه الآيات هي:
1. قول الله تعالى: ﴿لِّلرِّجَالِ
نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ
مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ
نَصِيباً مَّفْرُوضاً﴾[النساء: 7], وهذه الآية قررت أن للذكور من أولاد الرجل الميت
حصة من ميراثه وللإناث منهم حصة منه من قليل ما خلف بعده وكثيره, حصة مفروضة واجبة
معلومة مؤقتة, وذكر أن هذه الآية نزلت من أجل أن أهل الجاهلية كانوا يورثون الذكور
دون الإناث, وقال ابن زيد: كان النساء لا يورثن في الجاهلية من الآباء, وكان الكبير
يرث, ولا يرث الصغير وإن كان ذكراً, ويقولون: لا يعطى إلا من قاتل على ظهور الخيل
وطاعن بالرمح وضارب بالسيف وحاز الغنيمة, فقال الله تبارك وتعالى: ﴿ لِّلرِّجَالِ
نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ
مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ
نَصِيباً مَّفْرُوضاً ﴾, وقيل أنها نزلت في أم كحلة وابنتها كحلة وثعلبة وأوس بن
سويد, وهم من الأنصار كان أحدهم زوجها والآخر عم ولدها, فقالت: يا رسول الله توفي
زوجي وتركني وابنته فلم نورث!, فقال عم ولدها: يا رسول الله لا تركب فرساً ولا تحمل
كلاً ولا تنكي عدواً يكسب عليها ولا تكتسب! فنزلت هذه الآيات(3). وجاء في سبب نزول
هذه الآية قصص مشابهة, كلها تدور حول عدم توريث النساء والأطفال شيئاً من الميراث,
وذلك على عادة الجاهلية.
2. ويقول سبحانه وتعالى:
﴿يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِن
كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ
وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ
مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ
أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ
مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ
تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ
كَانَ عَلِيما حَكِيماً * وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ
يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا
تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ
مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ
فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ
دَيْنٍ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ
أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُوَاْ أَكْثَرَ مِن
ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاء فِي الثُّلُثِ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ
دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ﴾[النساء:
11-12], جاء في هاتين الآيتين بعض أنصبة الوارثين, وأن القسمة لا تتم إلا
بعد إخراج الديون التي للناس على الميت, وإنفاذ الوصية فيما لا يتجاوز الثلث, ومن
هولاء الورثة الأولاد جميعاً, فقد أعطي الذكر ضعف ما للأخت الأنثى, ولم تغفل الآية
نصيب الوالدين, وفي الآية التي بعدها جاء بيان نصيب الزوج والزوجة, وأنه يختلف
باختلاف حال الميت, وذلك بأن يكون له ولد أو لا ولد له على قيد الحياة, وهولاء
الستة الأصناف -وهم الابن والابنة والأب والأم والزوج والزوجة- لا بد لهم من نصيب
في مال الميت, ولا يمكن حجبهم بحال من الأحوال, ثم جاء الإخبار عن الكلالة, وهو
الميت الذي يموت وليس له أصل أو فرع وارث, أي ليس له والد أو والدة وإن علو على قيد
الحياة, وليس له أولاد أو أولاد أولاد على قيد الحياة, ففي هذه الحالة إن كان للميت
إخوة من الأم فإنهم يرثونه, وتكون القسمة بالتساوي بين الأخ لأم والأخت
لأم.
3. ويقول الله تعالى: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ
اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ
وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا
وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن
كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ
يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾[النساء:
176], بينت هذه الآية حالة الكلالة إن مات وكان له إخوة أشقاء, أي إخوة من
أبيه وأمه, فإن الميراث يؤول إليهم, وهنا يكون نصيب الأخ الشقيق ضعف نصيب الأخت
الشقيقة.
الأحاديث الواردة في
المواريث:
وردت بعض الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم, وذلك
لبيان مسائل في علم المواريث, وهي:
1. ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألحقوا الفرائض بأهلها, فما بقي فهو لأولى رجل
ذكر»(4).
2. وعن قبيصة بن ذؤيب قال: جاءت الجدة إلى أبي بكر رضي الله تعالى
عنه تسأله ميراثها, فقال: ما أعلم لك في كتاب الله شيئاً ولا أعلم لك في سنة رسول
الله صلى الله عليه وسلم من شيء حتى أسأل الناس, فسأل, فقال المغيرة بن شعبة: سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل لها السدس, فقال من يشهد معك أو من يعلم معك ؟,
فقام محمد بن مسلمة فقال مثل ذلك فانفذه لها(5).
3. وعن أسامة بن زيد قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يرث المؤمن الكافر, ولا يرث الكافر
المؤمن»(6). وجاء في رواية أخرى بلفظ آخر فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يتوارث أهل ملتين شتى»(7).
الإعجاز التشريعي في علم المواريث:
من المعلوم أن
الإسلام جاء يرسم للبشرية منهج حياة فيه رشدها وصلاحها, والناظر المدقق في أحكام
الإسلام وتشريعاته يجدها في حالة من الدقة والتوازن, وعدم التناقض, والحكمة, وتحقيق
العدالة والشمول والواقعية, مما يجعل الإنسان يقطع بأن هذه الأحكام ليست من عند أحد
من البشر؛ لأن ما يضعه البشر يتطرق إليه الخلل والتناقض, فيحتاج دوماً للتعديل
وإعادة النظر فيه, والتاريخ الإنساني يشهد بهذا الأمر.
إن التشريعات
المتعلقة بالميراث تعالج قضية مهمة في الواقع الإنساني, حيث أنها تعالج قضية مالية,
والمال تشتد المنافسة في طلبه والحرص عليه, وكثيراً ما تقع فيه الخصومة. وإن الورثة
هم أقرب الناس لبعضهم البعض, والشريعة تحرص في مجمل أحكامها على دعم العلاقة
الاجتماعية في حياة المجتمع المسلم لاسيما بين الأقارب, وتحرص على عدم الخصومة
والعداوة والشحناء بينهم.
ولما كان الأمر كذلك من أهمية هذا العلم؛ فإن الله
سبحانه وتعالى قد تولى بيانه بنفسه, فجاءت معظم أحكامه الأساسية في سورة النساء
مفصلة كما سبق ذكره في الآيات السابقة, وهذا التفصيل على خلاف المعهود من المنهج
القرآني الذي يتناول الأحكام كثيراً بالإجمال ويترك للسنة البيان والتفصيل, فأحكام
الصلاة والزكاة والصيام لا نجدها مفصلة في كتاب الله كما فصلت أحكام المواريث, وكل
ذلك مشعر بمدى اهتمام التشريع الإسلامي بأحكام المواريث, فكانت هذه الأحكام متصفة
بالعدالة والدقة والواقعية والتوازن والانسجام والتكامل بين أحكامها بما يشير إلى
ربانيتها. وسنشير في هذا البحث إلى شيء من وجوه الإعجاز التشريعي في علم
المواريث:
1. موافقة أحكام الميراث ومسايرتها للفطرة
البشرية:
إن مما تتسم به الشريعة الإسلامية هو سعيها لتحقيق صلاح
الإنسان ودفع الفساد عنه في دنياه وأخراه, وهذه هي مقاصدها وغايتها, فالشريعة جاءت
للأخذ بيد الإنسان على درب الله تعالى, ورفع العنت والحرج عنه, قال تعالى: ﴿هُوَ
اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾[الحج: 78], ويقول
تعالى أيضاًُ: ﴿يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ
الْعُسْرَ﴾[البقرة: 185], لذا فإن الشريعة الإسلامية في أحكامها تساير فطرة الإنسان
التي فطره الله عليها, قال تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ
اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ
الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُون﴾[الروم: 30],
فأحكام الشريعة لا تتناقض مع هذه الفطرة ولا تحاربها أو تكبتها, بل توجهها وترعاها
بما فيه الصلاح والفلاح للإنسان في دنياه وأخراه(.
وهذه المبادئ العامة
للتشريع الإسلامي نجدها جلية في أحكام المواريث؛ التي راعت حب الإنسان للمال
والولد, كما أخبر الله تعالى بذلك حيث قال: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾[الكهف: 46], فالإنسان يحب المال, ويحب جمعه, ويحب أن ينتقل
إلى فرعه, هذا الحب هو الذي يولد الدافع لدى الإنسان للعمل, والكدح و إعمار الأرض,
ولولا ضمان التشريع لانتقال ما يجمع المرء من مال عبر جهده المتواصل في الحياة إلى
ورثته من بعده –وأولى الورثة وأهمهم أبناؤه- لولا ذلك لتقاعس الكثير من الناس عن
المضي في إعمار الحياة والكدح فيها, بما ينذر بتراجع الحياة الإنسانية, وضعف الأمم,
فاحتياجات الإنسان الشخصية للمال محدودة, فإذا جمع المرء من المال ما يكفيه في
الحياة-ولو عاش ضعف عمره- فما الذي يدفعه إلى مزيد من الجهد والعطاء ومن ثم الكسب.
لذا فإن الإسلام قد أثبت حق الملكية للفرد, فهذا أمر فطري جبل عليه الإنسان, قال
تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا
أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ﴾[يس: 71].
فالآية فيها إثبات لحق التملك
لدى الفرد, إضافة لذلك فقد شرعت الشريعة الإسلامية من الأحكام ما فيه حفظ لحقوق
الناس المالية ولأملاكهم, فحرمت الشريعة الغش والاحتيال وأكل أموال الناس
بالباطل(9).
من هنا فقد كانت في أحكام المواريث ملاحظة ومسايرة لفطرة
الإنسان, وما جبل عليه, فكانت هذه الأحكام لا تقعد الإنسان عن المضي في إعمار
الحياة وبنائها, بل تفجر فيه الطاقة, وتبعث فيه الهمة, وتستثمر فيه قدرته على
العطاء لنفسه ولأمته, وبناء الحياة الإنسانية بما يتقدم بها على درب سعادة الإنسان.
فكانت أحكام المواريث لا ترعى حق الورثة فحسب, بل ترعى حق المورث وتنسجم مع عواطفه
ومشاعره, كل ذلك بما يعود على المجتمع بأسره بالخير, وفي هذا يقول مؤلف كتاب
(الإسلام ومبادؤه الخالدة): إنك لو تأملت في حكمة الإسلام في احترام الملكية
الفردية، ووضع القواعد العامة للمواريث لعرفت أن هذا من أكبر الدوافع التي تحفز
الممولين إلى قوة الاستثمار والنشاط والإنتاج، ويدعو إلى السهر على المصالح وبذل
الجهود القوية في تكثير الأموال، وهو في الوقت نفسه يحمي هذه الأموال من أن تعبث
بها يد السرف والتبذير, فالرجل الذي يعرف أن الأموال التي بذل في جمعها صحته وعقله،
ستصير بعد ذلك إلى الدولة لا ينتفع بها بنوه بطريق مباشر ليس هناك ما يحفزه إلى
ادخارها ويدفعه إلى المحافظة عليها(10).
وهذه التشريعات التي تلاحظ كافة
الاعتبارات على جهة لا تترك تداعيات سلبية, بل كافة آثارها إيجابية, ومحققة للخير,
لابد أن تكون من وضع إله حكيم خبير بعباده. وهذا الأمر يمكن تصوره في الأذهان إذا
ما التفتنا إلى بعض التشريعات الوضعية التي لم تأخذ بعين الاعتبار عواطف ومشاعر
وفطرة الإنسان, وأكبر الشواهد على ذلك هو النظام الماركسي الذي ألغى حق التوارث
بإلغاء الملكية الفردية أصلاً, فتهاوى هذا النظام وانهار, وكانت مصادمته للفطرة ذات
أثر سلبي لا على الفرد فحسب بل تعداه إلى المجتمع بأسره, وقد شاهدنا جميعاً كيفية
انهيار النظام الشيوعي انهياراً سريعاً دفعة واحدة؛ لأنه قد دُمر من داخله, بما
يحتوي من أنظمة وتشريعات تتناقض والفطرة التي فطر الله الإنسان والحياة
عليها(11).
2. الميراث يمنع من تكديس المال في أيدٍ
قليلة:
قلنا سابقاً أن الإسلام استجاب للفطرة البشرية في مسألة
الملكية الفردية, وقد يعترض معترض فيقول أن الملكية الفردية قد تكون سبباً في تركز
الثروة في أيدٍ قليلة, وهذا سيكون له أثر كبير في تسلط طائفة غنية من الناس على
باقي الطوائف الفقيرة, وهذا الأمر مشاهد وملموس في المجتمعات
الرأسمالية.
إننا نقول لهذا المعترض: إن الإسلام لم يهمل هذه المسألة, بل
تنبه لها قبل أي أحد من الناس, ولهذا فإنه أوجد نظام التوريث للمال وبحصص محددة لكل
واحد من الورثة, وبذلك فهو يمنع من تكديس الأموال في أيدٍ قليلة، ويمنع من ظهور
مفاسد نظام الطبقات، وتجمع الثروة, فوزعها تحت رعاية أحكام الإرث بين ورثة الميت من
الذكور والإناث، ولم يجعلها ملكاً للولد الأكبر بعكس ما قضى به قانون الإرث في بعض
الدول المدعية التمدن والتقدم فجعلها للولد الأكبر وجعل الثروة مكدسة في يد واحد من
الورثة.
وبذلك نرى الإنسان الذي يجمع الثروة الكبيرة وتتضخم لديه الأموال,
نرى ثروته وقد تقسمت بعد موته على أصوله وفروعه وحواشيه, وتحولت هذه الثروة إلى قطع
أصغر من ذي قبل, وذلك عبر قسمة بسيطة تتوافق مع الفطرة البشرية, وتمنع من تكديس
الأموال في أيدٍ أفراد قلائل.
3. الموازنة بين قوة
القرابة والحاجة للمال:
إن أحكام الشريعة أحكام متوازنة ومتكاملة,
وهي أيضاً أحكام عادلة, وتظهر هذه العدالة والدقة والتوازن بصورة جلية وظاهرة في
تقسيم الشريعة للميراث, فقد راعت الشريعة في ذلك القرابة, فأقرباء الميت هم أولى
الناس به وبميراثه, فقد كان الميراث في بداية التشريع يعطى للذين بينهم عقد مؤاخاة,
يقول تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ
وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَـئِكَ
بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ﴾[الأنفال: 72], يقول ابن كثير: ﴿بعضهم أولياء بعض﴾ أي
كل منهم أحق بالآخر من كل أحد, ولهذا آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين
المهاجرين والأنصار كل اثنين أخوان, فكانوا يتوارثون بذلك إرثاً مقدماً على القرابة
حتى نسخ الله تعالى ذلك بالمواريث(12), ثم نسخت الشريعة هذا الحكم الذي نزل لعلاج
حالة خاصة في ذلك الوقت وهي سد حاجة المهاجرين الذين تركوا الأموال والمتاع خلفهم
في مكة, ولتعميق عقد المؤاخاة فيما بينهم, وبعد نسخه صارت القرابة هي السبب الأول
في الميراث, يقول الله تعالى: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ
أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ
أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ
إِلَّا أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِي
الْكِتَابِ مَسْطُوراً﴾[الأحزاب: 6], جاء في تفسير الجلالين: ﴿وأولو الأرحام﴾ ذوو
القرابات, ﴿بعضهم أولى ببعض﴾ في الإرث, ﴿في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين﴾ أي
من الإرث بالإيمان والهجرة الذي كان أول الإسلام فنسخ, ﴿إلا﴾ لكن, ﴿أن تفعلوا إلى
أوليائكم معروفا﴾ بوصية فجائز, ﴿كان ذلك﴾ أي نسخ الإرث بالإيمان والهجرة بإرث ذوي
الأرحام, ﴿في الكتاب مسطورا﴾ وأريد بالكتاب في الموضعين اللوح المحفوظ(13). وراعت
الشريعة في مسألة القرابة عدة أمور, والمتأمل في هذه الأمور يجد الإعجاز التشريعي
يتلاحق ويتكرر مرة بعد مرة, وهذه الأمور التي راعتها الشريعة في القرابة
هي:
أ- الجهة: فيقدم الوارث من الجهة الأقرب على
الوارث من الجهة الأبعد, فمثلاً تقدم جهة البنوة على جهة الأخوة.
ب-
الدرجة: إذا اتفق أكثر من وارث في الدرجة نفسها, فإن التقديم والمفاضلة بينهما تكون
على أساس الدرجة, فعلى سبيل المثال الابن وابن الابن في درجة واحدة وهي البنوة,
فعند ذلك نقدم الأقرب درجة وهو الابن, ومثل ذلك تقديم الأب على الجد.
ت-
قوة القرابة: فيقدم الأقوى قرابة على غيره, فمثلاً يقدم الأخ الشقيق (من الأب
والأم) على الأخ لأب, ويقدم العم الشقيق على العم لأب.
ومن هذا الإعجاز
تقديم الابن على الأب, وقد يقول قائل كيف يقدم ابن الميت على أب الميت, والأب هو
صاحب الفضل على ابنه وليس العكس, وصاحب الفضل أولى ممن لا فضل له, وقد جاءت النصوص
المتعددة التي تحث على البر بالوالدين وتقديمهم على كل أحد في الطاعة –إلا على الله
سبحانه فلا يقدم عليه أحد في الطاعة- فينبغي أن لا يقدم عليهم أحد. ورداً على هذا
القول وتوضيحاً لجانب الإعجاز التشريعي في مسألة تقديم الابن على الأب
نقول:
إننا إذا دققنا النظر في هذا الأمر سنلاحظ أن تقديم الابن على الأب
أمر وجيه؛ فتقديم الأب على الابن في الميراث يترتب عليه أن ينتقل ما يرثه –أي الأب-
ليكون ميراثاً لأبنائه, أي حواشي ابنه الميت, وهذا معناه أن ينتقل الميراث لجهة
الإخوة, مع أن الأبناء أولى به, وهذا يتناقض مع مبدأ تقديم الأقرب في الميراث,
وأيضاً سيتناقض مع فطرة الإنسان في حبه لجمع المال؛ لينتقل بعد موته إلى أبنائه
وأحفاده(14). ثُم إن الأب مدبر عن الحياة والابن مقبل عليها؛ فكانت حاجته إلى المال
أكبر من حاجة الأب, فالأجيال المقبلة على الحياة والمؤهّلة لتحمّل المسؤولية يكون
نصيبها في الميراث أكثر من الأجيال الّتي بلغت سنّا كبيرا، وقلّ إنتاجها. وكل هذه
الأمور تجعلنا ندرك من خلالها أن الشريعة لاحظت جملة من الحقائق لتقرر منهجاً
متوازناً, يحفظ الحقوق, ويراعي الفطرة, ويحقق العدل في أدق معانيه(15).
ومن
أشهر الاعتراضات على نظام الإرث في الإسلام, ادعاء البعض أن المرأة مظلومة؛ لأن
للذكر مثل حظ الأنثيين, وهذا الادعاء ادعاء باطل, وينبئ عن جهل صاحبه, فنظام الإرث
في الإسلام نظام مثالي، فهو إذ يقرر للمرأة نصف نصيب الرجل، فإنه قد حقق العدالة
الاجتماعية بينهما.
فالمرأة قديمـًا كانت تباع وتشترى، فلا إرث لها ولا ملك،
وأن بعض الطوائف اليهودية كانت تمنع المرأة من الميراث مع إخوتها الذكور، وإن
الزوجة كانت تباع في إنجلترا حتى القرن الحادي عشر، وفي سنة 1567م صدر قرار من
البرلمان الاسكتلندي يحظر على المرأة أن يكون لها سلطة على شيء من الأشياء
.
أما عرب الجاهلية فقد وضعوا المرأة في أخس وأحقر مكان في المجتمع، فكانت
توأد طفلة وتُورَث المرأة كما يورث المتاع، وكانوا لا يورثون النساء والأطفال، حيث
كان أساس التوريث عندهم الرجولة والفحولة والقوة، فورثوا الأقوى والأقدر من الرجال
على الذود عن الديار؛ لأنهم كانوا يميلون إلى الفروسية والحرب، وكانوا أهل كر وفر
وغارات من أجل الغنائم.
إن الإسلام عامل المرأة معاملة كريمة وأنصفها بما لا
تجد له مثيلاً في القديم ولا الحديث؛ حيث حدد لها نصيبـًا في الميراث سواءً قل
الإرث أو كثر، حسب درجة قرابتها للميت، فالأم والزوجة والابنة، والأخوات الشقيقات
والأخوات لأب وبنات الابن والجدة، لهنَّ نصيب مفروض من التركة, قال تعالى: ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ
وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ
مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً﴾[النساء: 7]، وبهذا المبدأ أعطى
الإسلام منذ أربعة عشر قرناً حق النساء في الإرث كالرجال، أعطاهنَّ نصيبـًا
مفروضـًا، وكفى هذا إنصافـًا للمرأة حين قرر مبدأ المساواة في الاستحقاق، والإسلام
لم يكن جائرًا أو مجاوزًا لحدود العدالة، ولا يحابي جنسـًا على حساب جنس آخر حينما
جعل نصيب المرأة نصف نصيب الرجل، كما في قوله تعالى:
﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ
فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ
كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ
وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ
فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ
وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ
اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً﴾[النساء: 11]. فالتشريع
الإسلامي وضعه رب العالمين الذي خلق الرجل والمرأة، وهو العليم الخبير بما يصلح
شأنهم من تشريعات، وليس لله مصلحة في تمييز الرجل على المرأة أو المرأة على الرجل،
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ
هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾[فاطر: 15].
فقد حفظ الإسلام حق المرأة على أساس
من العدل والإنصاف والموازنة، فنظر إلى واجبات المرأة والتزامات الرجل، وقارن
بينهما، ثم بيّن نصيب كل واحد, فمن العدل أن يأخذ الابن "الرجل" ضعف الابنة
"المرأة" للأسباب التالية:
1- فالرجل عليه أعباء مالية ليست على المرأة
مطلقـًا, فالرجل يدفع المهر، يقول تعالى: ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ
نِحْلَةً﴾[النساء: 4]، أي وأعطوا النساء مهورهن عطية واجبة وفريضة لازمة(16), وعن
طيب نفس, والمهر حق خالص للزوجة وحدها لا يشاركها فيه أحد فتتصرف فيه كما تتصرف في
أموالها الأخرى كما تشاء متى كانت بالغة عاقلة رشيدة.
2- والرجل مكلف
بالنفقة على زوجته وأولاده؛ لأن الإسلام لم يوجب على المرأة أن تنفق على الرجل ولا
على البيت حتى ولو كانت غنية إلا أن تتطوع بمالها عن طيب نفس, يقول الله تعالى:
﴿لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ
فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا
آتَاهَا…﴾[الطلاق: 7]، وقوله تعالى : ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ
وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾[البقرة: 233], وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
في حجة الوداع عن جابر رضي الله عنه: «اتقوا الله في النساء فإنهنَّ عوان عندكم
أخذتموهنَّ بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولهنَّ عليكم رزقهنَّ
وكسوتهنَّ بالمعروف»(17), فمال الرجل مستهلك، ومال المرأة موفور.
3- والرجل
مكلف أيضـًا بجانب النفقة على الأهل بالأقرباء وغيرهم ممن تجب عليه نفقته، حيث يقوم
بالأعباء العائلية والالتزامات الاجتماعية التي يقوم بها المورث باعتباره جزءًا منه
أو امتدادًا له أو عاصبـًا من عصبته، ولذلك حينما تتخلف هذه الاعتبارات كما هي
الحال في شأن توريث الإخوة والأخوات لأم، نجد أن الشارع الحكيم قد سوَّى بين نصيب
الذكر ونصيب الأنثى منهم في الميراث, قال تعالى: ﴿وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ
كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي
الثُّلُثِ﴾[النساء: 12]. فالتسوية هنا بين الذكور والإناث في الميراث؛ لأنهم يدلون
إلى الميت بالأم، فأصل توريثهم هنا الرحم، وليسوا عصبةً لمورثهم حتى يكون الرجل
امتداداً له من دون المرأة، فليست هناك مسؤوليات ولا أعباء تقع على كاهله . بينما
المرأة مكفية المؤنة والحاجة، فنفقتها واجبة على ابنها أو أبيها أو أخيها شريكها في
الميراث أو عمِّها أو غيرهم من الأقارب.
مما سبق نستنتج أن المرأة غمرت
برحمة الإسلام وفضله فوق ما كانت تتصور, فبالرغم من أن الإسلام أعطى الذكر ضعف
الأنثى ـ فهي مرفهة ومنعمة أكثر من الرجل؛ لأنها تشاركه في الإرث دون أن تتحمل
تبعات، فهي تأخذ ولا تعطي وتغنم ولا تغرم، وتدخر المال دون أن تدفع شيئـًا من
النفقات أو تشارك الرجل في تكاليف العيش ومتطلبات الحياة، ولربما تقوم بتنمية مالها
في حين أن ما ينفقه أخوها وفاءًا بالالتزامات الشرعية قد يستغرق الجزء الأكبر من
نصيبه في الميراث.
وتفوق الرجل على المرأة في الميراث ليس في كل الأحوال،
ففي بعض الأحوال تساويه، وفي بعض الأحيان قد تتفوق المرأة على الرجل في الميراث،
وقد ترث الأنثى والذكر لا يرث .
والمرأة لا تحصل على نصف نصيب الرجل إلا إذا
كانا متساويين في الدرجة، والسبب الذي يتصل به كل منهما إلى الميت, فمثلاً: الابن
والبنت, أو الأخ والأخت، يكون نصيب الرجل هنا ضعف نصيب المرأة، قال تعالى:
﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ
الأُنْثَيَيْن﴾[النساء: 11],وقال تعالى: ﴿وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً
وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ
تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾[النساء: 176].
يتـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــبع
مقدمة:
المال من أساسيات الحياة, بل هو قوام الحياة, قال تعالى:
﴿وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ
قِيَاماً﴾[النساء: 5], وهو وسيلة لا غاية، فالتعامل بين الناس إنما يكون به، من بيع
وشراء وغيره, أما إذا استعمل في غير الوجه الصحيح فإنه يكون شرّاً ووبالاً على
الناس وخاصة إذا كان غاية .
ومع ذلك فإن المال نعمة من نعم الله، ولذلك وجب على
الإنسان أن يسعى في تحصيله، ووردت نصوص في الحث علىتحصيله منها قوله تعالى:
﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ
الدُّنْيَا﴾[القصص: 77], ومن الحديث ورد الكثير, ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام:
«ما كسب الرجل كسباً أطيب من عمل يده»(1), وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يستعيذ بالله من الفقر, فمن دعائه: «اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر، اللهم إني
أعوذ بك من عذاب القبر، لا إله إلا أنت»(2), وإن الدنيا كلها بجميع ما فيها من مال
ومتاع ليست شيئاً بجانب ما في الآخرة من رضوان الله ونعيمه, وجاء التمثيل في القرآن
والسنة الذي يحطّ من شأن الدنيا, والذي يجعل المرء لا يحرص حين يجيء أجله على أن
يترك كل ما يملكه لأبنائه وحدهم، بل يتركه كما قسمه الله للأسرة كلها، ولم يفصّل
القرآن حكماً من الأحكام الشرعية كما فصّل الميراث، كما نجد القرآن من ناحية ثانية
يغرس في نفوسنا حقيقة أخرى، وهي أن هذا المال ليس ملكاً لنا حقّاً، بل هو مال الله
جعله ودائع بين أيدينا إلى آجال محدودة حتى نجعل منه حقّاً للسائل والمحروم, قال
تعالى: ﴿وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ﴾[النور: 33], وقال تعالى:
﴿آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ
فِيهِ﴾ [الحديد : 7], وإذا كان المال الذي بين أيدينا لله سبحانه وتعالى وأننا
مستخلفون فيه، فإنه لا يجوز لنا أن نبذّره، وأن نضعه في غير مواضعه، ولذا فقد حجر
على المبذّرين والمسرفين، ومنعوا من تصرفاتهم قال تعالى: ﴿وَلاَ تُؤْتُواْ
السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً﴾[النساء:
5].
وإذا مات الإنسان وترك مالاً فإنه يجب أن يؤول إلى أعز الناس إليه وهم
فروعه وأصوله، وحواشيه، وأقرباؤه. ولذلك فإن نظام الميراث في الشريعة الإسلامية
يفتت الثروة العامة ولا يجعلها مكدسة بين أيدي الناس دون الآخرين.
وقد اشتمل
علم المواريث في الإسلام على حِكم كثيرة, وفوائد عظيمة, مما جعل التشريع الإسلامي
رائداً في هذا المجال, ولم يسبقه أي تشريع أو قانون في هذه الدقة والتقدير الذي
يبهر العقول المستنيرة, ويجعل النفوس تتقبل هذه القسمة الإسلامية في الميراث براحة
نفس وطيب خاطر.
وفي هذا البحث سنتكلم عن بعض وجوه الإعجاز التشريعي في
المواريث, وقبل ذلك سنعرض الآيات التي تكلمت عن الميراث وقسمته, وكذلك الأحاديث
النبوية التي أخبرت عن الميراث ووضحت صوراً من القسمة في بعض الحالات, وبعد ذلك
سنذكر شيئاً من الحِكم البالغة في قسمة الشريعة الإسلامية لهذا
الميراث.
الآيات الواردة في
المواريث:
جاءت آيات في كتاب الله تعالى تتحدث عن المواريث وكيفية
قسمتها بين ورثة الميت, وهذه الآيات هي:
1. قول الله تعالى: ﴿لِّلرِّجَالِ
نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ
مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ
نَصِيباً مَّفْرُوضاً﴾[النساء: 7], وهذه الآية قررت أن للذكور من أولاد الرجل الميت
حصة من ميراثه وللإناث منهم حصة منه من قليل ما خلف بعده وكثيره, حصة مفروضة واجبة
معلومة مؤقتة, وذكر أن هذه الآية نزلت من أجل أن أهل الجاهلية كانوا يورثون الذكور
دون الإناث, وقال ابن زيد: كان النساء لا يورثن في الجاهلية من الآباء, وكان الكبير
يرث, ولا يرث الصغير وإن كان ذكراً, ويقولون: لا يعطى إلا من قاتل على ظهور الخيل
وطاعن بالرمح وضارب بالسيف وحاز الغنيمة, فقال الله تبارك وتعالى: ﴿ لِّلرِّجَالِ
نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ
مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ
نَصِيباً مَّفْرُوضاً ﴾, وقيل أنها نزلت في أم كحلة وابنتها كحلة وثعلبة وأوس بن
سويد, وهم من الأنصار كان أحدهم زوجها والآخر عم ولدها, فقالت: يا رسول الله توفي
زوجي وتركني وابنته فلم نورث!, فقال عم ولدها: يا رسول الله لا تركب فرساً ولا تحمل
كلاً ولا تنكي عدواً يكسب عليها ولا تكتسب! فنزلت هذه الآيات(3). وجاء في سبب نزول
هذه الآية قصص مشابهة, كلها تدور حول عدم توريث النساء والأطفال شيئاً من الميراث,
وذلك على عادة الجاهلية.
2. ويقول سبحانه وتعالى:
﴿يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِن
كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ
وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ
مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ
أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ
مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ
تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ
كَانَ عَلِيما حَكِيماً * وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ
يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا
تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ
مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ
فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ
دَيْنٍ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ
أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُوَاْ أَكْثَرَ مِن
ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاء فِي الثُّلُثِ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ
دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ﴾[النساء:
11-12], جاء في هاتين الآيتين بعض أنصبة الوارثين, وأن القسمة لا تتم إلا
بعد إخراج الديون التي للناس على الميت, وإنفاذ الوصية فيما لا يتجاوز الثلث, ومن
هولاء الورثة الأولاد جميعاً, فقد أعطي الذكر ضعف ما للأخت الأنثى, ولم تغفل الآية
نصيب الوالدين, وفي الآية التي بعدها جاء بيان نصيب الزوج والزوجة, وأنه يختلف
باختلاف حال الميت, وذلك بأن يكون له ولد أو لا ولد له على قيد الحياة, وهولاء
الستة الأصناف -وهم الابن والابنة والأب والأم والزوج والزوجة- لا بد لهم من نصيب
في مال الميت, ولا يمكن حجبهم بحال من الأحوال, ثم جاء الإخبار عن الكلالة, وهو
الميت الذي يموت وليس له أصل أو فرع وارث, أي ليس له والد أو والدة وإن علو على قيد
الحياة, وليس له أولاد أو أولاد أولاد على قيد الحياة, ففي هذه الحالة إن كان للميت
إخوة من الأم فإنهم يرثونه, وتكون القسمة بالتساوي بين الأخ لأم والأخت
لأم.
3. ويقول الله تعالى: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ
اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ
وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا
وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن
كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ
يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾[النساء:
176], بينت هذه الآية حالة الكلالة إن مات وكان له إخوة أشقاء, أي إخوة من
أبيه وأمه, فإن الميراث يؤول إليهم, وهنا يكون نصيب الأخ الشقيق ضعف نصيب الأخت
الشقيقة.
الأحاديث الواردة في
المواريث:
وردت بعض الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم, وذلك
لبيان مسائل في علم المواريث, وهي:
1. ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألحقوا الفرائض بأهلها, فما بقي فهو لأولى رجل
ذكر»(4).
2. وعن قبيصة بن ذؤيب قال: جاءت الجدة إلى أبي بكر رضي الله تعالى
عنه تسأله ميراثها, فقال: ما أعلم لك في كتاب الله شيئاً ولا أعلم لك في سنة رسول
الله صلى الله عليه وسلم من شيء حتى أسأل الناس, فسأل, فقال المغيرة بن شعبة: سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل لها السدس, فقال من يشهد معك أو من يعلم معك ؟,
فقام محمد بن مسلمة فقال مثل ذلك فانفذه لها(5).
3. وعن أسامة بن زيد قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يرث المؤمن الكافر, ولا يرث الكافر
المؤمن»(6). وجاء في رواية أخرى بلفظ آخر فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يتوارث أهل ملتين شتى»(7).
الإعجاز التشريعي في علم المواريث:
من المعلوم أن
الإسلام جاء يرسم للبشرية منهج حياة فيه رشدها وصلاحها, والناظر المدقق في أحكام
الإسلام وتشريعاته يجدها في حالة من الدقة والتوازن, وعدم التناقض, والحكمة, وتحقيق
العدالة والشمول والواقعية, مما يجعل الإنسان يقطع بأن هذه الأحكام ليست من عند أحد
من البشر؛ لأن ما يضعه البشر يتطرق إليه الخلل والتناقض, فيحتاج دوماً للتعديل
وإعادة النظر فيه, والتاريخ الإنساني يشهد بهذا الأمر.
إن التشريعات
المتعلقة بالميراث تعالج قضية مهمة في الواقع الإنساني, حيث أنها تعالج قضية مالية,
والمال تشتد المنافسة في طلبه والحرص عليه, وكثيراً ما تقع فيه الخصومة. وإن الورثة
هم أقرب الناس لبعضهم البعض, والشريعة تحرص في مجمل أحكامها على دعم العلاقة
الاجتماعية في حياة المجتمع المسلم لاسيما بين الأقارب, وتحرص على عدم الخصومة
والعداوة والشحناء بينهم.
ولما كان الأمر كذلك من أهمية هذا العلم؛ فإن الله
سبحانه وتعالى قد تولى بيانه بنفسه, فجاءت معظم أحكامه الأساسية في سورة النساء
مفصلة كما سبق ذكره في الآيات السابقة, وهذا التفصيل على خلاف المعهود من المنهج
القرآني الذي يتناول الأحكام كثيراً بالإجمال ويترك للسنة البيان والتفصيل, فأحكام
الصلاة والزكاة والصيام لا نجدها مفصلة في كتاب الله كما فصلت أحكام المواريث, وكل
ذلك مشعر بمدى اهتمام التشريع الإسلامي بأحكام المواريث, فكانت هذه الأحكام متصفة
بالعدالة والدقة والواقعية والتوازن والانسجام والتكامل بين أحكامها بما يشير إلى
ربانيتها. وسنشير في هذا البحث إلى شيء من وجوه الإعجاز التشريعي في علم
المواريث:
1. موافقة أحكام الميراث ومسايرتها للفطرة
البشرية:
إن مما تتسم به الشريعة الإسلامية هو سعيها لتحقيق صلاح
الإنسان ودفع الفساد عنه في دنياه وأخراه, وهذه هي مقاصدها وغايتها, فالشريعة جاءت
للأخذ بيد الإنسان على درب الله تعالى, ورفع العنت والحرج عنه, قال تعالى: ﴿هُوَ
اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾[الحج: 78], ويقول
تعالى أيضاًُ: ﴿يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ
الْعُسْرَ﴾[البقرة: 185], لذا فإن الشريعة الإسلامية في أحكامها تساير فطرة الإنسان
التي فطره الله عليها, قال تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ
اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ
الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُون﴾[الروم: 30],
فأحكام الشريعة لا تتناقض مع هذه الفطرة ولا تحاربها أو تكبتها, بل توجهها وترعاها
بما فيه الصلاح والفلاح للإنسان في دنياه وأخراه(.
وهذه المبادئ العامة
للتشريع الإسلامي نجدها جلية في أحكام المواريث؛ التي راعت حب الإنسان للمال
والولد, كما أخبر الله تعالى بذلك حيث قال: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾[الكهف: 46], فالإنسان يحب المال, ويحب جمعه, ويحب أن ينتقل
إلى فرعه, هذا الحب هو الذي يولد الدافع لدى الإنسان للعمل, والكدح و إعمار الأرض,
ولولا ضمان التشريع لانتقال ما يجمع المرء من مال عبر جهده المتواصل في الحياة إلى
ورثته من بعده –وأولى الورثة وأهمهم أبناؤه- لولا ذلك لتقاعس الكثير من الناس عن
المضي في إعمار الحياة والكدح فيها, بما ينذر بتراجع الحياة الإنسانية, وضعف الأمم,
فاحتياجات الإنسان الشخصية للمال محدودة, فإذا جمع المرء من المال ما يكفيه في
الحياة-ولو عاش ضعف عمره- فما الذي يدفعه إلى مزيد من الجهد والعطاء ومن ثم الكسب.
لذا فإن الإسلام قد أثبت حق الملكية للفرد, فهذا أمر فطري جبل عليه الإنسان, قال
تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا
أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ﴾[يس: 71].
فالآية فيها إثبات لحق التملك
لدى الفرد, إضافة لذلك فقد شرعت الشريعة الإسلامية من الأحكام ما فيه حفظ لحقوق
الناس المالية ولأملاكهم, فحرمت الشريعة الغش والاحتيال وأكل أموال الناس
بالباطل(9).
من هنا فقد كانت في أحكام المواريث ملاحظة ومسايرة لفطرة
الإنسان, وما جبل عليه, فكانت هذه الأحكام لا تقعد الإنسان عن المضي في إعمار
الحياة وبنائها, بل تفجر فيه الطاقة, وتبعث فيه الهمة, وتستثمر فيه قدرته على
العطاء لنفسه ولأمته, وبناء الحياة الإنسانية بما يتقدم بها على درب سعادة الإنسان.
فكانت أحكام المواريث لا ترعى حق الورثة فحسب, بل ترعى حق المورث وتنسجم مع عواطفه
ومشاعره, كل ذلك بما يعود على المجتمع بأسره بالخير, وفي هذا يقول مؤلف كتاب
(الإسلام ومبادؤه الخالدة): إنك لو تأملت في حكمة الإسلام في احترام الملكية
الفردية، ووضع القواعد العامة للمواريث لعرفت أن هذا من أكبر الدوافع التي تحفز
الممولين إلى قوة الاستثمار والنشاط والإنتاج، ويدعو إلى السهر على المصالح وبذل
الجهود القوية في تكثير الأموال، وهو في الوقت نفسه يحمي هذه الأموال من أن تعبث
بها يد السرف والتبذير, فالرجل الذي يعرف أن الأموال التي بذل في جمعها صحته وعقله،
ستصير بعد ذلك إلى الدولة لا ينتفع بها بنوه بطريق مباشر ليس هناك ما يحفزه إلى
ادخارها ويدفعه إلى المحافظة عليها(10).
وهذه التشريعات التي تلاحظ كافة
الاعتبارات على جهة لا تترك تداعيات سلبية, بل كافة آثارها إيجابية, ومحققة للخير,
لابد أن تكون من وضع إله حكيم خبير بعباده. وهذا الأمر يمكن تصوره في الأذهان إذا
ما التفتنا إلى بعض التشريعات الوضعية التي لم تأخذ بعين الاعتبار عواطف ومشاعر
وفطرة الإنسان, وأكبر الشواهد على ذلك هو النظام الماركسي الذي ألغى حق التوارث
بإلغاء الملكية الفردية أصلاً, فتهاوى هذا النظام وانهار, وكانت مصادمته للفطرة ذات
أثر سلبي لا على الفرد فحسب بل تعداه إلى المجتمع بأسره, وقد شاهدنا جميعاً كيفية
انهيار النظام الشيوعي انهياراً سريعاً دفعة واحدة؛ لأنه قد دُمر من داخله, بما
يحتوي من أنظمة وتشريعات تتناقض والفطرة التي فطر الله الإنسان والحياة
عليها(11).
2. الميراث يمنع من تكديس المال في أيدٍ
قليلة:
قلنا سابقاً أن الإسلام استجاب للفطرة البشرية في مسألة
الملكية الفردية, وقد يعترض معترض فيقول أن الملكية الفردية قد تكون سبباً في تركز
الثروة في أيدٍ قليلة, وهذا سيكون له أثر كبير في تسلط طائفة غنية من الناس على
باقي الطوائف الفقيرة, وهذا الأمر مشاهد وملموس في المجتمعات
الرأسمالية.
إننا نقول لهذا المعترض: إن الإسلام لم يهمل هذه المسألة, بل
تنبه لها قبل أي أحد من الناس, ولهذا فإنه أوجد نظام التوريث للمال وبحصص محددة لكل
واحد من الورثة, وبذلك فهو يمنع من تكديس الأموال في أيدٍ قليلة، ويمنع من ظهور
مفاسد نظام الطبقات، وتجمع الثروة, فوزعها تحت رعاية أحكام الإرث بين ورثة الميت من
الذكور والإناث، ولم يجعلها ملكاً للولد الأكبر بعكس ما قضى به قانون الإرث في بعض
الدول المدعية التمدن والتقدم فجعلها للولد الأكبر وجعل الثروة مكدسة في يد واحد من
الورثة.
وبذلك نرى الإنسان الذي يجمع الثروة الكبيرة وتتضخم لديه الأموال,
نرى ثروته وقد تقسمت بعد موته على أصوله وفروعه وحواشيه, وتحولت هذه الثروة إلى قطع
أصغر من ذي قبل, وذلك عبر قسمة بسيطة تتوافق مع الفطرة البشرية, وتمنع من تكديس
الأموال في أيدٍ أفراد قلائل.
3. الموازنة بين قوة
القرابة والحاجة للمال:
إن أحكام الشريعة أحكام متوازنة ومتكاملة,
وهي أيضاً أحكام عادلة, وتظهر هذه العدالة والدقة والتوازن بصورة جلية وظاهرة في
تقسيم الشريعة للميراث, فقد راعت الشريعة في ذلك القرابة, فأقرباء الميت هم أولى
الناس به وبميراثه, فقد كان الميراث في بداية التشريع يعطى للذين بينهم عقد مؤاخاة,
يقول تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ
وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَـئِكَ
بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ﴾[الأنفال: 72], يقول ابن كثير: ﴿بعضهم أولياء بعض﴾ أي
كل منهم أحق بالآخر من كل أحد, ولهذا آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين
المهاجرين والأنصار كل اثنين أخوان, فكانوا يتوارثون بذلك إرثاً مقدماً على القرابة
حتى نسخ الله تعالى ذلك بالمواريث(12), ثم نسخت الشريعة هذا الحكم الذي نزل لعلاج
حالة خاصة في ذلك الوقت وهي سد حاجة المهاجرين الذين تركوا الأموال والمتاع خلفهم
في مكة, ولتعميق عقد المؤاخاة فيما بينهم, وبعد نسخه صارت القرابة هي السبب الأول
في الميراث, يقول الله تعالى: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ
أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ
أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ
إِلَّا أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِي
الْكِتَابِ مَسْطُوراً﴾[الأحزاب: 6], جاء في تفسير الجلالين: ﴿وأولو الأرحام﴾ ذوو
القرابات, ﴿بعضهم أولى ببعض﴾ في الإرث, ﴿في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين﴾ أي
من الإرث بالإيمان والهجرة الذي كان أول الإسلام فنسخ, ﴿إلا﴾ لكن, ﴿أن تفعلوا إلى
أوليائكم معروفا﴾ بوصية فجائز, ﴿كان ذلك﴾ أي نسخ الإرث بالإيمان والهجرة بإرث ذوي
الأرحام, ﴿في الكتاب مسطورا﴾ وأريد بالكتاب في الموضعين اللوح المحفوظ(13). وراعت
الشريعة في مسألة القرابة عدة أمور, والمتأمل في هذه الأمور يجد الإعجاز التشريعي
يتلاحق ويتكرر مرة بعد مرة, وهذه الأمور التي راعتها الشريعة في القرابة
هي:
أ- الجهة: فيقدم الوارث من الجهة الأقرب على
الوارث من الجهة الأبعد, فمثلاً تقدم جهة البنوة على جهة الأخوة.
ب-
الدرجة: إذا اتفق أكثر من وارث في الدرجة نفسها, فإن التقديم والمفاضلة بينهما تكون
على أساس الدرجة, فعلى سبيل المثال الابن وابن الابن في درجة واحدة وهي البنوة,
فعند ذلك نقدم الأقرب درجة وهو الابن, ومثل ذلك تقديم الأب على الجد.
ت-
قوة القرابة: فيقدم الأقوى قرابة على غيره, فمثلاً يقدم الأخ الشقيق (من الأب
والأم) على الأخ لأب, ويقدم العم الشقيق على العم لأب.
ومن هذا الإعجاز
تقديم الابن على الأب, وقد يقول قائل كيف يقدم ابن الميت على أب الميت, والأب هو
صاحب الفضل على ابنه وليس العكس, وصاحب الفضل أولى ممن لا فضل له, وقد جاءت النصوص
المتعددة التي تحث على البر بالوالدين وتقديمهم على كل أحد في الطاعة –إلا على الله
سبحانه فلا يقدم عليه أحد في الطاعة- فينبغي أن لا يقدم عليهم أحد. ورداً على هذا
القول وتوضيحاً لجانب الإعجاز التشريعي في مسألة تقديم الابن على الأب
نقول:
إننا إذا دققنا النظر في هذا الأمر سنلاحظ أن تقديم الابن على الأب
أمر وجيه؛ فتقديم الأب على الابن في الميراث يترتب عليه أن ينتقل ما يرثه –أي الأب-
ليكون ميراثاً لأبنائه, أي حواشي ابنه الميت, وهذا معناه أن ينتقل الميراث لجهة
الإخوة, مع أن الأبناء أولى به, وهذا يتناقض مع مبدأ تقديم الأقرب في الميراث,
وأيضاً سيتناقض مع فطرة الإنسان في حبه لجمع المال؛ لينتقل بعد موته إلى أبنائه
وأحفاده(14). ثُم إن الأب مدبر عن الحياة والابن مقبل عليها؛ فكانت حاجته إلى المال
أكبر من حاجة الأب, فالأجيال المقبلة على الحياة والمؤهّلة لتحمّل المسؤولية يكون
نصيبها في الميراث أكثر من الأجيال الّتي بلغت سنّا كبيرا، وقلّ إنتاجها. وكل هذه
الأمور تجعلنا ندرك من خلالها أن الشريعة لاحظت جملة من الحقائق لتقرر منهجاً
متوازناً, يحفظ الحقوق, ويراعي الفطرة, ويحقق العدل في أدق معانيه(15).
ومن
أشهر الاعتراضات على نظام الإرث في الإسلام, ادعاء البعض أن المرأة مظلومة؛ لأن
للذكر مثل حظ الأنثيين, وهذا الادعاء ادعاء باطل, وينبئ عن جهل صاحبه, فنظام الإرث
في الإسلام نظام مثالي، فهو إذ يقرر للمرأة نصف نصيب الرجل، فإنه قد حقق العدالة
الاجتماعية بينهما.
فالمرأة قديمـًا كانت تباع وتشترى، فلا إرث لها ولا ملك،
وأن بعض الطوائف اليهودية كانت تمنع المرأة من الميراث مع إخوتها الذكور، وإن
الزوجة كانت تباع في إنجلترا حتى القرن الحادي عشر، وفي سنة 1567م صدر قرار من
البرلمان الاسكتلندي يحظر على المرأة أن يكون لها سلطة على شيء من الأشياء
.
أما عرب الجاهلية فقد وضعوا المرأة في أخس وأحقر مكان في المجتمع، فكانت
توأد طفلة وتُورَث المرأة كما يورث المتاع، وكانوا لا يورثون النساء والأطفال، حيث
كان أساس التوريث عندهم الرجولة والفحولة والقوة، فورثوا الأقوى والأقدر من الرجال
على الذود عن الديار؛ لأنهم كانوا يميلون إلى الفروسية والحرب، وكانوا أهل كر وفر
وغارات من أجل الغنائم.
إن الإسلام عامل المرأة معاملة كريمة وأنصفها بما لا
تجد له مثيلاً في القديم ولا الحديث؛ حيث حدد لها نصيبـًا في الميراث سواءً قل
الإرث أو كثر، حسب درجة قرابتها للميت، فالأم والزوجة والابنة، والأخوات الشقيقات
والأخوات لأب وبنات الابن والجدة، لهنَّ نصيب مفروض من التركة, قال تعالى: ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ
وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ
مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً﴾[النساء: 7]، وبهذا المبدأ أعطى
الإسلام منذ أربعة عشر قرناً حق النساء في الإرث كالرجال، أعطاهنَّ نصيبـًا
مفروضـًا، وكفى هذا إنصافـًا للمرأة حين قرر مبدأ المساواة في الاستحقاق، والإسلام
لم يكن جائرًا أو مجاوزًا لحدود العدالة، ولا يحابي جنسـًا على حساب جنس آخر حينما
جعل نصيب المرأة نصف نصيب الرجل، كما في قوله تعالى:
﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ
فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ
كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ
وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ
فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ
وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ
اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً﴾[النساء: 11]. فالتشريع
الإسلامي وضعه رب العالمين الذي خلق الرجل والمرأة، وهو العليم الخبير بما يصلح
شأنهم من تشريعات، وليس لله مصلحة في تمييز الرجل على المرأة أو المرأة على الرجل،
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ
هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾[فاطر: 15].
فقد حفظ الإسلام حق المرأة على أساس
من العدل والإنصاف والموازنة، فنظر إلى واجبات المرأة والتزامات الرجل، وقارن
بينهما، ثم بيّن نصيب كل واحد, فمن العدل أن يأخذ الابن "الرجل" ضعف الابنة
"المرأة" للأسباب التالية:
1- فالرجل عليه أعباء مالية ليست على المرأة
مطلقـًا, فالرجل يدفع المهر، يقول تعالى: ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ
نِحْلَةً﴾[النساء: 4]، أي وأعطوا النساء مهورهن عطية واجبة وفريضة لازمة(16), وعن
طيب نفس, والمهر حق خالص للزوجة وحدها لا يشاركها فيه أحد فتتصرف فيه كما تتصرف في
أموالها الأخرى كما تشاء متى كانت بالغة عاقلة رشيدة.
2- والرجل مكلف
بالنفقة على زوجته وأولاده؛ لأن الإسلام لم يوجب على المرأة أن تنفق على الرجل ولا
على البيت حتى ولو كانت غنية إلا أن تتطوع بمالها عن طيب نفس, يقول الله تعالى:
﴿لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ
فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا
آتَاهَا…﴾[الطلاق: 7]، وقوله تعالى : ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ
وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾[البقرة: 233], وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
في حجة الوداع عن جابر رضي الله عنه: «اتقوا الله في النساء فإنهنَّ عوان عندكم
أخذتموهنَّ بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولهنَّ عليكم رزقهنَّ
وكسوتهنَّ بالمعروف»(17), فمال الرجل مستهلك، ومال المرأة موفور.
3- والرجل
مكلف أيضـًا بجانب النفقة على الأهل بالأقرباء وغيرهم ممن تجب عليه نفقته، حيث يقوم
بالأعباء العائلية والالتزامات الاجتماعية التي يقوم بها المورث باعتباره جزءًا منه
أو امتدادًا له أو عاصبـًا من عصبته، ولذلك حينما تتخلف هذه الاعتبارات كما هي
الحال في شأن توريث الإخوة والأخوات لأم، نجد أن الشارع الحكيم قد سوَّى بين نصيب
الذكر ونصيب الأنثى منهم في الميراث, قال تعالى: ﴿وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ
كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي
الثُّلُثِ﴾[النساء: 12]. فالتسوية هنا بين الذكور والإناث في الميراث؛ لأنهم يدلون
إلى الميت بالأم، فأصل توريثهم هنا الرحم، وليسوا عصبةً لمورثهم حتى يكون الرجل
امتداداً له من دون المرأة، فليست هناك مسؤوليات ولا أعباء تقع على كاهله . بينما
المرأة مكفية المؤنة والحاجة، فنفقتها واجبة على ابنها أو أبيها أو أخيها شريكها في
الميراث أو عمِّها أو غيرهم من الأقارب.
مما سبق نستنتج أن المرأة غمرت
برحمة الإسلام وفضله فوق ما كانت تتصور, فبالرغم من أن الإسلام أعطى الذكر ضعف
الأنثى ـ فهي مرفهة ومنعمة أكثر من الرجل؛ لأنها تشاركه في الإرث دون أن تتحمل
تبعات، فهي تأخذ ولا تعطي وتغنم ولا تغرم، وتدخر المال دون أن تدفع شيئـًا من
النفقات أو تشارك الرجل في تكاليف العيش ومتطلبات الحياة، ولربما تقوم بتنمية مالها
في حين أن ما ينفقه أخوها وفاءًا بالالتزامات الشرعية قد يستغرق الجزء الأكبر من
نصيبه في الميراث.
وتفوق الرجل على المرأة في الميراث ليس في كل الأحوال،
ففي بعض الأحوال تساويه، وفي بعض الأحيان قد تتفوق المرأة على الرجل في الميراث،
وقد ترث الأنثى والذكر لا يرث .
والمرأة لا تحصل على نصف نصيب الرجل إلا إذا
كانا متساويين في الدرجة، والسبب الذي يتصل به كل منهما إلى الميت, فمثلاً: الابن
والبنت, أو الأخ والأخت، يكون نصيب الرجل هنا ضعف نصيب المرأة، قال تعالى:
﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ
الأُنْثَيَيْن﴾[النساء: 11],وقال تعالى: ﴿وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً
وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ
تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾[النساء: 176].
يتـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــبع